فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى تفسير {دار البوار} بأرض بدر يكون قوله: {جهنم يصلونها} جملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
وانتصابُ جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل {يصلونها} على طريقة الاشتغال.
وما يروون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عليّ كرّم الله وجهه أن {الذين بدلوا نعمة الله كفرًا} هم الأفجران من قريش: بَنُو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم، قال: فأما بنو أمية فمُتّعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر.
فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية.
وفي روايات عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: هم كفار قريش، ولا يريد عمر ولا علي رضي الله عنهما من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الأفهام الخطئة.
وكذا ما روي عن ابن عباس: أنهم جَبلة بن الأيهم ومن اتبعه من العرب الذين تنصروا في زمن عُمر وحلّوا ببلاد الروم، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وجملة {وبئس القرار} عطف على جملة {يصلونها}، أو حال من {جهنم}.
والتقدير: وبئس القرار هي.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}.
عطف على {بدلوا} و{أحلوا}، فالضمير راجع إلى {الذين} وهم أئمة الشرك.
والجعل يصدق باختراع ذلك ما فعل عمرو بن لُحي وهو من خُزاعة.
ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هُبل على سطحها.
والأنداد: جمع نِدّ بكسر النون، وهو المماثل في مجد ورفعة، وتقدم عند قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا} في سورة البقرة [22].
وقرأ الجمهور {ليضلوا} بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالًا، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أندادًا، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعُبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل: للضلال عن سبيله، تشنيعًا عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضَلّوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورُويْس عن يعقوب {لِيَضلّو} بفتح الياء والمعنى: ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلًا في زمن الحال.
ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير {أن} المصدرية بعد لام التعليل.
ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله: {وأحلوا قومهم دار البوار}.
وسبيل الله: كل عمل يجري على ما يرضي الله.
شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة.
وجملة {قل تمتعوا} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن المخاطب بـ {ألم تر إلى الذين بدلوا} إذا علِم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب.
وأُمر بأن يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة، وهذا كقوله: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} في سورة آل عمران [196، 197]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار}.
هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8] وقوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24] وقوله: {مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] وقوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران: 196- 197] الآية إلى ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}.
وحين يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى...} [إبراهيم: 28].
فهذا يعني أن المُخِبر وهو الحق إذا ما أخبرنا بشيء فهو أصدق مِنْ أنْ تراه أعيننا.
وتشير الآية إلى عملية مُبَادلة بين اعتراف بالنعمة؛ ثم إنكارها. كأن هناك شيئًا قد استبعدناه، وأتيْنا ببديل له. والحق سبحانه هو القائل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ...} [البقرة: 61].
والحق سبحانه وتعالى قد أعطاك النعمة ولم يطلب منك أن تقومَ بأيِّ تكليف إيمانيٍّ قبل البلوغ. وهكذا نجد أن النعمة هي الأصل، والتكليف إنما يأتي من بعد ذلك، وكان من الواجب ألاَّ يعصي العبد مَنْ أنعم عليه بكل النعم، وأن يتجه إلى التكليف بمحبة؛ كي لا يقلب نعمة الله كفرًا.
أو: أن المقصود هم قوم قريش الذين أفاء الله عليهم الخير، وجعل لهم الحرم آمنًا: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
وكذلك أنعم عليهم بأن يكون نبي الإسلام- الدين الخاتم- منهم، وهو النبي الذي ستدين له الدنيا والعالم في كل زمان ومكان؛ فلماذا يُبدِّلون تلك النعمة كفرًا؟
أمَا كانت تلك النعمة وحدها كافية لمقابلتها بعميق الشكر وحُسْن العبادة؟ فهذا النبي الذي قال الحق سبحانه عن رسالته: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44].
وهو سبحانه القائل عن نعمه عليهم: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
فكيف يُبدِّلون نعمة الله كفرًا؟ وكيف يُسيئون معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وصَحْبه حتى قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل سنينهم كسنين يوسف».
وخرج لقتالهم في بدر؛ وهم الذين صنعوا بأنفسهم ذلك نتيجة تبديلهم لنعمة الله كفرًا، ولماذا قَبِلوا عطاء الحق من خير ونعم ورفضوا منهجه؟
ولو كانوا قوم صِدْق مع النفس، وصدق مع ما يعتقدونه لَطلبوا من الأصنام أن تعطيهمَ؛ أو لَرفضوا أن يأخذوا خَيْر المنعم ما داموا قد رفضوا منهجه، وهو سبحانه قد أنعم عليهم بمُقوِّمات المادة؛ وأضاف لذلك منهجه مُقوم الروح.
وحين نقرأ قول الحق سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28].
نفهم أن الإحلال هو إيجاد حالٍّ في مَحَلٍّ. ونعلم أن الظَّرف ينقسم إلى قسمين: ظرف مكان، وظرف زمان؛ فإذا أحللْتَ حدثًا محلَّ حَدث؛ فهذا يخصُّ ظرف الزمان، وحين تحل شيئًا مكان شيء آخر، فهذا أمر يخصُّ ظرف المكان.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28].
وهذا يعني ظرف مكان. ولقائل أن يقول: وكيف يأخذون أهلهم وقومهم ليحلوهم إلى دار بَوَار؟
ونقول: لقد حدث ذلك نتيجة أنهم قد غَشّوهم وخدعوهم، ولم يستعمل هؤلاء الأهل عقولهم؛ ولم يلتفتوا إلى أنّ قادتهم وأُولي الأمر منهم يسلكون السلوك السيء وعليهم ألاَّ يقلدوهم؛ فَجرُّوا عليهم الفتن واحدة تِلْو أخرى، وترين الفتن على القلوب.
ولهذا أراد الحق سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون بها مناعات من الفتن؛ فتحثّ النفس اللوامة المؤمن؛ فيكثر الحسنات ليبطل السيئات، وإذا ما تحولت النفس اللوّامة إلى نفس أمَّارة بالسوء وجدتْ في المجتمع المسلم مَنْ يزجرها.
وبهذا تصبح أمة محمد صلى الله عليه وسلم محصَّنة ضد الفتن التي تُذهِب الإيمان.
ويقول الحق سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
ويُذكِّرنا الحق سبحانه بأن الرسولَ سيكون شهيدًا علينا، ونحن سنكون شهداء على الناس، وهكذا ضمن الحق سبحانه أن يعلم كُلُّ واحد من أمة محمد جزئية من العلم ليكون امتدادًا لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِثْلما شهد الرسول أنه قد بلَّغ الرسالة؛ سيكون على كل واحد من أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم أنْ يشهدَ بأنه قد بلَّغ ما علم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكُلٌّ منا يعلم كيف حدثتْ الغفلة الأولى؛ حيث حدثتْ الغفلة من الأُسْوة؛ فزاحمتهم الشهوات وارتكبوا السيئاتِ، فحين غفلت النفس ارتكبتْ المعصية؛ وحين رأى الناسُ مَنْ يرتكب المعصية قلَّدوه.
وهكذا حمل مَنْ وقع في الغفلةوزْه ووزْر مَنِ اتبعه بالأُسْوة السيئة؛ فصار ضَالًا في ذاته؛ ثم تحمَّل وِزْر مَنْ أضله أيضًا.
وهكذا صار مَنْ فعل ذلك هو مَنْ أحلَّ قومه دار البوار.
والبوار يعني الهلاك؛ ذلك أن الكبار من هؤلاء القوم حين تصرَّفوا وسلكُوا بما يخالف المنهج أورثوا مَنِ اتبعوهم الهلاك.
ونحن في الريف نَصِفُ الأرض التي لا تصلح للزراعة بأنها الأرض البُور؛ وكذلك يَقُال قُمْنا بتبوير الأرض أي: أهلكنا ما فيها من زرع.
وحين نقرأ قول الحق: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28].
نجد في كلمة {قومهم} ما يُوحي بالخِسَّة لِمَنْ يرتكبون هذا الفعل الشائن؛ فمَنْ يُهِلك قومه لابد أن يكونَ خسيسًا؛ ولابد أن يكون محترف غِشٍّ وخديعة؛ فالقوم هم مَنْ يقومون معهم؛ وكان من اللائق أن تضرب على يد مَنْ يصيبهم بشرٍّ أو يغشّهم أو يخدعهم.
ويشرح الحق سبحانه دار البوار هذه، فيقول: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا...}.
وإذا قِسْنا جهنم بالمقرات؛ فلن نجد مَنْ يرغب في أن تكون جهنم هي مقرَّه؛ لأن الإنسان يحب أن يستقر في المكان الذي يجد فيه راحة؛ ولو لم يجد في هذا المكان راحة؛ فهو يتركه.
وجهنم التي يَصْلوْنها لن تكون المقرَّ الذي يجدون فيه أدنى راحة؛ لأن العذاب مُقيم بها؛ ولذلك يصفها الحق سبحانه بأنها:
{وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 29].
فكأنهم ممسوكون بكلاليب فلا يستطيعون منها فكاكًا. وهي تقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
وكأنهم قد عَشِقوا النار فعشقتهم النار، ولو كانت لديهم قدرة على أنْ يفرُّوا منها لَفعلوا، لكنهم مربوطون بها وهي مربوطة بهم؛ وهي بئس القرار؛ لأن أحدًا لن يخرج منها إلا أنْ يشاء الله.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ...}.
والنّد هو: المِثْل والمُشَابه. وهم قد اتخذوا لله شركاء؛ وأيّ شريك اتخذوه لم يَقُلْ لهم عن النعم التي أسبغها عليهم ولم يُنزِل لهم منهجًا. وهؤلاء الشركاء كانوا أصنامًا، أو أشجارًا، أو الشمس، أو القمر، أو النجوم، ولم يَقُلْ كائن من هؤلاء: ماذا أعطى من نعم ليعبدوه؟
ونعلم أن العبادة تقتضي أمرًا وتقتضي نهيًا، ولم يُنزِل أيٌّ من هؤلاء الشركاء منهجًا كي يتبعه مَنْ يعبدونهم؛ ولا ثوابَ على العبادة؛ ولا عقَاب على عدم العبادة.
ولذلك نجد أن مِثْل هؤلاء إنما اتجهوا إلى عبادة هؤلاء الشركاء؛ لأنهم لم يأتوا بمنهج يلتزمون به.
ولذلك نجد الدجالين الذين يدَّعُون أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ويتصرفون مع مَنْ يُصدِّقونهم من الأتباع، وكأنهم كائنات أرقى من النبي صلى الله عليه وسلم- والعياذ بالله منهم-.
ومن العجيب أننا نجد بعضًا من المثقفين وهم يتبعون هؤلاء الدجالين. وقد يبتعد عنه بسطاء الناس؛ ذلك أن النفس الفطرية تحب أن تعيش على فطرة الإيمان؛ أما مَنْ يأتي ليُخفِّف من أحكام الدين؛ فيهواه بعض مِمَّنْ يتلمسون الفِكَاك من المنهج.
وبذلك يجعل هؤلاء الأتباع مَنْ يخفف عنهم المنهج نِدًا لله- والعياذ بالله- ويضلون بذلك عن الإيمان.
والحق سبحانه يقول هنا: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ..} [إبراهيم: 30].
أي: لِيُضِلوا غيرهم عن سبيل الله.
وهناك قراءة أخرى لنفس الآية: {لِيَضلوا عن سبيل الله}، وأنت ساعةَ تسمع حدثًا يوجد ليجيء حدث كنتيجة له، فأنت تأتي ب لام التعليل كقولك ذاكر الطالب لينجح هنا أنت لم تَأْتِ بفعل ونقيضه. وهل كانوا يضلون أنفسهم؟
لا، بل كانوا يتصوَّرون أنهم على هُدىً واستقامة، وهذه تُسمَّى لام العاقبة وهي تعني أنه قد يحدث بعد الفعل فِعْل آخر كان واردًا. وهذه تُسمَّى لام تعليلة.
ولكن قد يأتي فِعْل بعد الفعل ولم يكن صاحبُ الفعل يريده؛ كما فعل فرعون حين التَقط موسى عليه السلام من الماء ليكون ابنًا له؛ ولكن شاء الحق سبحانه أن يجعله عدوًا.
وساعة التقاط فرعون لموسى لم يكن فرعون يريد أن يكبر موسى ليصبح عدوًا له؛ ولكنها مشيئة الله التي أرادتْ ذلك لتخطئة مَنْ ظنَّ نفسه قادرًا على التحكُّم في الأحداث، بداية من ادعاء الألوهية، ومرورًا بذبح الأطفال الذكور، ثم يأتي التقاطه لموسى ليكون قُرَّة عينٍ له؛ فينشأ موسى ويكبر ليكون عدوًا له!!
ويتابع الحق سبحانه: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30].
وهذا أمر من الله لمحمد أن يقول لهم: تمتعوا. وهذا أمر من الله. والعبادة أمر من الله، فهل إن تمتعوا يكونون قد أطاعوا الله؟
وهنا نقول: إن هذا أمر تهكميّ، ذلك أن الحق سبحانه قال من بعد ذلك:
{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30].
وعلى هذا نجد أن الأمر إما أنْ يُراد به إنفاذ طلب، وإما أنْ يُراد به الصَّد عن الطلب بأسلوب تهكميّ.
ونجد في قول الإمام علي- كرم الله وجهه- قولًا يشرح لنا هذا: لا شرَّ في شر بعده الجنة، ولا خير في خير بعده النار.
فَمنْ يقول: إن التكاليف صعبة؛ عليه أن يتذكَّر أن بعدها الجنة، ومَنْ يرى المعاصي والكفر أمرًا هينًا، عليه أن يعرف أن بعد ذلك مصيره إلى النار؛ فلا تعزل المقدمات عن الأسباب، ولا تعزل السبب عن المُسبِّب أو المقدمة عن النتائج.
فالأب الذي يجد ابنه يُلاحِق المذاكرة في الليل والنهار ليبني مستقبله قد يشفق عليه، ويسحب الكتاب من يده، ويأمره أن يستريح كل لا يقع في المرض؛ فيصبح كالمُنْبَتّ؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهْرًا أبقى، ولكن الولد يرغب في مواصلة الجهد ليصلَ إلى مكانة مُشرِّفة.
وهنا نجد أن كلًا من الأب والابن قد نظروا إلى الخير من زوايا مختلفة؛ ولذلك قد يكون اختلاف النظر إلى الأحداث وسيلة لالتقاءات الخير في الأحداث.
وهم حين يسمعون قول الحق سبحانه: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30].
قد يستبطئون الأحداث؛ ويقول الواحد منهم إلى أن يأتي هذا المصير: قد نجد حلًا له.
ونقول: فليتذكر كُلّ إنسان أن الأمر المُعلَّق على غير ميعاد مُحدّد؛ قد يأتي فجأة؛ فَمَنْ يعيش في معصية إلى عمر التسعين؛ هل يظن أنه سيفِرّ من النار.
إنه وَاهِمٌ يخدع نفسه، ذلك أن إبهام الله ليمعاد الموت هو أعنفُ بيانٍ عنه. وما دام المصير إلى النار فلا مُتْعة في تلك الحياة. اهـ.